إشراقة

 

 

الذين يولدون ذوي »نفسيّة تجارية«

 

 

 

 

 

 

     كثيرٌ من الناس يُولَدُون ذوي نفسيّة تجاريّة، فيَتَعَامَلُون بهاحتى مع أقرب أقربائهم وأَعَزِّ أعزائهم؛ بل مع من لا يُتَصَوَّر أنّ أيّ إنسان مهما كان شقيًّا سيَصْدُرُ عن نفسيّته التجاريّة في التعامل معه. مثلاً مع أَبَوَيْه أو جَدَّيْه أو مع شيخه الـمُرَبِّي أو أستاذه الشفوق الذي صَنَعَه على عينه؛ ولكنّ بعض الأشقياء يكونون مولودين ضمن «خرق العادة» فهم يكونون تجاريِّين في شأن أقدس القرابات وأخلص العلاقات وأصفى الأواصرالتي يُؤْثِرُها المرأ إذا كان كريمًا حتى على نفسه وكلِّ مُقْتَضَيَاتها من الراحةوالعافية، والهدوءوالطمأنينة، التي تُضْفِي على الحياة معنىً من المعاني.

     أن يكون الإنسان كيِّسًا حازمًا يقوم بأعمال حياته على بصيرة وهدى، متفاديًا من كلِّ نوع من العثاروالانخداع، خيرٌ له ولكل من يقوم بها لصالحه من أعضاء عائلته وأفراد المجتمع؛ ولكنّه لايجوز أن يَتَحَوَّل أنانيًّا مُغْرِضاً يضع دائمًا في اعتباره المصالحَ والأغراضَ الشخصيّةَ، ولا يَتَجَرَّد منها حتى في أَنْزَهِ المواقف وأَعفِّ المناسبات. إن ذلك إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أنه قد عُجِنَتْ طينتُه بنقائص باطنيّة لم يَسَعْه أن يَتَنَزَّه منها حتى بعد ما تَعَلَّم وجلس إلى الأساتذة والـمُرَبِّين الذين قد يقيمون كلَّ مُعوَجٍّ مِنْ كلٍّ مَنْ لم تُقَوِّمه الحياةُ بأيّ من لدغاتها ولذعاتها أو تجاربها الحلوة والمرّة، التي لايكاد يُحْصِيها.

     الإنسانُ كائنٌ مُعَقَّد جِدًّا بين جميع الحَيَوَانات في الكون، ولم يُكْرَم بالخلافة في الأرض إلاّ لأنه خُلِقَ مُعَمَّقًا مُوَسَّعًا لا يقدر حتى بنوجنسه جميعًا أن يمسحوا أغوارَ عُمُقه وسِعَته بأيِّ آلة من العقل الذي يستكشفون به خبايا الأرض والفضاء؛ حيث يظلّون عاجزين عن إدراك خبايا الطبيعة البشرية، مهما أُوتُوا من عقول نفّاذة وذكاء دَسَّاس؛ ولذلك يحدث أنه يتعلّم الإنسان في كلّ مرحلة من المراحل التعليمية، ويجتاز جميعَ الامتحانات، ويحوز كثيرًا من الشهادات، ويُعْرَفُ بأنه مُثَقَّفٌ مُؤَهَّلٌ علميًّا ودراسيًّا؛ ولكنه رغم ذلك لايكون مُؤَهَّلاً خُلُقِيًّا وسيرةً وسلوكاً وبالنسبة إلى القيم المعنويّة والمُثُل الإنسانية؛ بل يبقى على سيرته الأولى من الاعوجاج والانحراف ومُرَكَّب النقيصة، مما يظلّ يحول بينه وبين كونه إنسانًا مُهَذَّبًا ثَقَّفَتْه الدراسةُ، وصَقَلَتْه التجاربُ، وحَنَّكَتْه صروفُ الدهر، وعَرَكَتْه الأيامُ واللّيالي، فنَحَتَتْ منه منشودًا لدى المجتمع، مطلوبًا لدى الشريعة، محبوبًا لدى الله تعالى.

من ثم قد لا يَبْرَح طبيعتَه التجاريّةَ حتى في التعامل مع أَبَوَيْه مثلاً، فيصنع معهما «المعروف» ليوهم لهما أنّه «بَرٌّ» بهما يصدر عن الرغبة في رضاهما من وراء كلِّ ما يتصرّف به في الحياة، على حين إنه لايكون مخلصًا لهما وإنما يتظاهر بسلوكه معهما أنه مطيعٌ لهما كلَّ الإطاعة، وإنما يخادعهما بأنه يُحسِن السيرة فيهما؛ حيث يَكْرَهُهما في قلبه ويَتَقَزَّزُ منهما في قرارة نفسه، ويظنّهما عبئًا ثقيلاً عليه؛ حيث صارا مثلاً شيخين هَرِمَيْن لا يستطيعان أن يقوما بشؤونهما بنفسيهما، فضلاً عن النفقات التي يحتاجان إليها لكي يعيشا الحياةَ ويُزَجِّيَا الأيامَ المُتَبَقِّيَة من حياتهما؛ فهما كَلاَّن عليه؛ ولكنه يتعامل معهما في الواقع بغير ما يتظاهر به لهما، وسيرتُه فيهما سيرةُ تاجر في زبائنه؛ لأنه يعلم أنه سيرثهما فيما سيتركانه بعد وفاتهما، فلا بدّ أن يظلّ مُتَعَلِّقًا بهما ليحظى بتركاتهما!.

     وكذلك وجدنا كثيرًا من الناس يتّصلون بمُرَبٍّ صالح وشيخ مُتَّقٍ، لا لكي يصلحوا صلاحَه، ويزهدوا في الدنيا ويرغبوا في الآخرة زهدَه ورغبته، ويتصلوا بالله ويُنِيبُوا إليه اتصالَه وإنابته، ويَتَذَوَّقُوا الذكر والعبادةَ والتلاوةَ ويَتَقَزَّزُوا من وسائل المادة والمعدة تذوُّقَه وتقزُّزَه؛ وبالجملة لكي يعمروا الآخرة على حساب العاجلة؛ لأن الأخيرة فانية معدودة محدودة، والأولى باقية لا معدودة ولا محدودة. وإنما يتصلون به لكي يكسبوا الاعتبارَ في المجتمع، والثقةَ لدى الناس، والمكانةَ بين العامّة والخاصّة، والحرمةَ لدى الشارع؛ حيث إن الشيخ الصالح والرجل المربّي الذي اتّصلوا به يتمتع بشعبيّة كاسحة، ويُعْجَب به الناس على اختلاف مذاهبهم إعجابًا لا يُعْجَبُونَه بأيٍّ من «العلماء» الذين يُعَدُّون «ربّانيين» «صُلَحَاء» «مُرَبِّين» فالاتصالُ به وعقدُ العلاقة معه والانتماءُ إليه لاينفع في الدين فقط، وإنما ينفع في الدنيا كذلك.. ينفع في الدين إذا قَصَدَ ذلك ورَمَىٰ إليه المتّصلُ به والمنتمي إليه، و وَضَعَ من خلال اتصاله به نُصْبَ عينيه أنه سيُزَكِّي بصحبته ومجالسته ومعايشته في خلواته وجلواته نفسَه، ويُطَهِّرها من أدران الارتماء في أحضان المادة والمعدة، ويُجَرِّدها من حبّ الدنيا وكراهية الموت، ويُؤَهِّلُها لكي يَطَّرِح على عتبة الرحمن، ويَطْغَىٰ على جميع إملاءات الشيطان، ويشحذ الإيمانَ بالله تعالى؛ بحيث تهون عليه مصائب الدنيا وشدائد الحياة كلّها.

     وينفع في الدنيا إذا كان هو المُسْتَهْدَف لديه من وراء اتصاله به وتَرَدُّده إليه وملازمته له، فيُحَقِّق من خلال ذلك مكاسب لا تُحْصَىٰ. مثلاً كان يتّجر في بضاعة من بضائع التجارة التي لاتقبل الحصر، فكَسَدَتْ تجارتُه، وهَدَأَتْ سوقُه لسبب من الأسباب، فأشار عليه بعضُ إخوانه الخُلَّص المُحَنَّكِين أن يتّصل بالشيخ الصالح فلان، ويلازمه لفترة لابأس بها حتى يظنّ الناس أنّه من رجاله وأتباعه الذين تَخَرَّجُوا عليه في الذكر والعبادة، وحبّ الله وكراهية الدنيا؛ فما إن عَمِلَ بنصيحته، حتى صار محطّ أنظار الناس، فانتعشت تجارتُه، ونَشِطَتْ سوقُه، ونَفَقَتْ أعمالُه مجددًا؛ لأن الناس ارْتَمَوْا على مَحَلاَّته ارتماءَ الفراش على النور؛ لأنه كسب السمعة الطيبةَ والاعتبارَ اللائقَ والمكانةَ المرموقةَ، من خلال اتصاله بالشيخ الصالح فلان الذي يُعْجَب به أبناءُ المجتمع على اختلاف توجّهاتهم، وقد كان من ذي قبل صار سَيِّءَ السمعة لأسباب يطول ذكرها، فانفضّ الناس من حول محلاّته وزهدوا في بضائعه، ورغبوا عنها إلى بضائع الآخرين من رجال الأعمال والمال.

     والانتماءُ إلى مثل هذا الشيخ الرباني الصالح لاينفع في مجال من مجالات الحياة، وإنما ينفع فيها كلّها؛ فالمنتمي إليه مُوَظَّف مرغوب فيه، وعامل مقبول، ومدرس يحظى بالإعجاب لدى التلاميذ، ومديرُ مكاتبَ أو مديرُ مؤسساتٍ أو معاهدَ أو مدارس أو جامعات موثوق به ثقةً نابعةً من ثقة الناس بالشيخ الصالح الذي ينتمي إليه.

     موضعُ الدرس في مثل هذا الموقف أن الناس لايتجرون فقط في شؤون الدنيا والمواد الماديّة والأسباب الدنيوية، وإنّما يتجرون كذلك في الأرصدة الدينية ويَبْتَاعُون الموادَّ المُقَدَّسَةَ التي كان السلفُ يَتَسَامَوْن بها عن التسفّل بها إلى هذا الحضيض الذي وَصَلَ بها إليه الخلفُ الذين قَرَّرُوا من سوء حظّهم أن يبيعوا الدينَ بالدنيا ويكسبوا العاجلةَ على حساب الآخرة، ويؤثروا الفانيةَ على الباقية.

     إنّ كسب الدنيا بالدنيا، والاتجار في البضائع التي تُصَنَّف ضمن «المواد الماديّة» لا بأس به ولا مانع منه؛ ولكنه من الظلم الفاحش أن تتجر في «الموادّ الأخريّة» و«البضائع المعنوية الروحيّة» لكي تكسب بها الدنيا ونعيمها وظلَّها الزائلَ ورصيدَها الفاني. ما أَحْسَنَ أن تكسب الدين بالدنيا وما أَسْوَأَ أن تكسب الدنيا بالدين، فإن عَكَسْتَ الأمرَ، وعَمِلْت بالضّد فمعنى ذلك أنه قد كُتِبَ عليك الشقاءُ الذي لايردّه إلاّ اللهُ العليّ القدير الذي يفعل ما يشاء.

     يَحْسُنُ بك أن تكون تجاريًّا بارعًا في فن التجارة ومجال البيع والشراء في المواقف التي تخصّ التجارة وإدارة الأعمال، وأن تكسب المال؛ لكي تُزَكِّي به الأعمال،وتكسب الدنيا لكي تُصْلِح بها الآخرة، وأن تكون ذا نفسيّة تجاريّة وتفنّنٍ في إدارة الأعمال واستثمار الأموال، لكي تُنْفِق ما تكسبه في أداء الحقوق والقيام بالواجبات، ومواساة الفقراء، والعطف على الأيتام، ومسح دموع الأرامل والمحتاجين من كل نوع، وتحقيق الأعمال الخيرية والمشاريع الإسلاميّة؛ ولكن يَسُوؤ بك كلَّ السَّوْء أن تتجر في الدين وتكسب به الدنيا وتتقدم فيها على حسابه، وتُثْبِت ذكاءَك وكياستك في هذا الشأن، وتظن في نفسك أنك «رجل فاضل» يعاونك ذكاؤك ويساعدك فطنتك في كل موقف فتحوز المكاسبَ بحذافيرها. إن ذلك خسارة أيّ خسارة إن لم تدرِها فتلك مصيبةٌ وإن دريتَها فالمصيبةُ أعظم.

     من أخبث الخباثات أن لاينفكّ المرأُ من نفسيّته التجاريّة حتى في مواقف دينية مُقَدَّسَة، وقرابات سامية نزيهة، وصلات صافية يعمُّ في شأنها الظنُّ بأنّها لا تُلَوَّث بشيء من الغرض الماديّ والمصلحة الدنيويّة.

     ولكن بعض الناس يُولَدُون معجونةً طينتُهم بهذه الخباثة، فلا يَسَعُهُمْ أن يعيشوا ولو لَحَظَاتٍ إذا تَجَرَّدُوا منها؛ فهم مُضْطَرُّون أن يُمَارِسُوا مُقْتَضَيَاتِها ويُـحَقِّقُوا إملاءاتِها؛ لكي يستحقّوا اللعنةَ التي قَدَّرَها الله لهم وكَتَبَها عليهم في الأزل في علمه المُحْكَم القديم. اللهم احفظنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واجعلنا سُعَدَاءَ في دار الدنيا ودار الآخرة.

 

 

(تحريرًا في الساعة 10:30  من صباح يوم الإثنين: 10/جمادى الآخرة 1434هـ = 22/أبريل 2013م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو - سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37